سورة الشعراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


قوله: {طسم} قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي، وخلف بإمالة الطاء، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بالفتح مشبعاً. وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من {طسن} في الميم وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها. قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم. قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه: فيما يجري وما لا يجري أنه يجوز أن يقال: {طاسين ميم} بفتح النون وضم الميم كما يقال: هذا معدى كرب. وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء. وفي مصحف عبد الله بن مسعود {ط س م} هكذا حروفاً مقطعة، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر، ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: اذكر، أو اقرأ. وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدّم في غير موضع من هذا التفسير، فلا محلّ له من الإعراب.
وقد قيل: إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل: اسم من أسماء القرآن، والإشارة بقوله: {تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين} إلى السورة، ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا {طسم} مبتدأ، وإن جعلناه خبراً لمبتدأ محذوف، فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من {طسما} والمراد بالكتاب هنا: القرآن، والمبين: المبين المظهر، أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان.
{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} أي قاتل نفسك ومهلكها {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: لعدم إيمانهم بما جئت به والبخع في الأصل: أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون: قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف، وقرأ قتادة: {باخع نفسك} بالإضافة. قرأ الباقون بالقطع قال: الفراء: {أن} في قوله: {أن لاَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} في موضع نصب: لأنها جزاء قال النحاس: وإنما يقال: {إن} مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف، والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله، والمعنى: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم، وجملة: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً} مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، ومعنى {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين}: أنهم صاروا منقادين لها أي: فتظلّ أعناقهم إلخ، قيل: وأصله، فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع.
وقيل: إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم، ووصفت بما يوصفون به. قال عيسى بن عمر: خاضعين، وخاضعة هنا سواء، واختاره المبرد، والمعنى: أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأوّل، ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي *** طوين طولي وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي، وترك الطول، ومنه قول جرير:
أرى مرّ السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال
وقال أبو عبيد والكسائي: إن المعنى: خاضعيها هم، وضعفه النحاس، وقال مجاهد: أعناقهم: كبراؤهم، قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال: جاءني عنق من الناس أي: رؤساء منهم.
وقال أبو زيد والأخفش: أعناقهم: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس أي: جماعة.
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بيّن سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال، وأن لا يجدّد لهم موعظة وتذكيراً إلاّ جدّدوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، و{من} في: {مّن ذِكْرِ} مزيدة لتأكيد العموم، و{من} في {مّن رَّبّهِمُ} لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء {فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي: بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض، وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله، فقد كذّبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأوّل أولى، فالإعراض عن الشيء: عدم الالتفات إليه. ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه، وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِه يَسْتَهْزِءونَ}، والأنباء هي: ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً. وسمّيت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن، وقال: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ}، ولم يقل: ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذّبون، لأن الاستهزاء أشدّ منهما، ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام.
ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها، والناظر إليها، والمستدلّ بها أعظم دليل، وأوضح برهان، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، فنبّه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا: الصنف.
وقال الفراء: هو اللون، وقال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم: محمود، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلاّ ربّ العالمين، والكريم في الأصل: الحسن الشريف، يقال: نخلة كريمة: أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم: شريف فاضل، وكتاب كريم: إذا كان مرضياً في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه، قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض، فمن صار منهم إلى الجنة، فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار، فهو لئيم، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى المذكور قبله أي: إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، ثم أخبر سبحانه: بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده، وتكذيبه، واستهزائه، فقال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا، وقال سيبويه: إن {كان} هنا صلة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي: الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى: أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه.
وجملة {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} إلخ، مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض، والتكذيب، والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره: واتل إذ نادى أو اذكر، والنداء: الدعاء، و{أن} في قوله: {أَنِ ائت القوم الظالمين} يجوز أن تكون مفسرة، وأن تكون مصدرية، ووصفهم بالظلم. لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل، وذبح أبنائهم. وانتصاب {قَوْمِ فِرْعَونَ} على أنه بدل، أو عطف بيان من القوم الظالمين، ومعنى {أَلا يَتَّقُونَ}: ألا يخافون عقاب الله سبحانه، فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته وقيل المعنى: قل لهم: ألا تتقون؟ وجاء بالياء التحتية لأنهم غيب وقت الخطاب، وقرأ عبيد بن عمير، وأبو حازم: {ألا تتقون} بالفوقية: أي: قل لهم ذلك، ومثله: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بالتحتية والفوقية.
{قَالَ رَبّ إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} أي قال موسى هذه المقالة، والمعنى: أخاف أن يكذبوني في الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} معطوفان على {أخاف} أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة، قرأ الجمهور برفع {يَضِيقُ}، {ولا ينطلق} بالعطف على {أخاف} كما ذكرنا، أو على الاستئناف، وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة بنصبهما عطفاً على {يكذبون}.
قال الفراء: كلا القراءتين له وجه، قال النحاس الوجه. الرفع، لأن النصب عطف على {يكذبون} وهذا بعيد {فَأَرْسِلْ إلى هارون} أي: أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً، ولم يذكر الموازرة هنا، لأنها معلومة من غير هذا الموضع، كقوله في طه: {واجعل لّي وَزِيراً} [طه: 29]، وفي القصص {أُرْسِلَهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي} [القصص: 34]. وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} الذنب هو قتله للقبطي، وسماه ذنباً بحسب زعمهم، فخاف موسى أن يقتلوه به. وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء.
ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الردع وطرف من الزجر {قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا} وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدلّ عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال: ارتدع يا موسى عن ذلك، واذهب أنت ومن استدعيته، ولا تخف من القبط {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ}، وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46]، وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما، وأنه متولّ لحفظهما، وكلاءتهما، وأجراهما مجرى الجمع فقال: {مَّعَكُمْ} لكون الاثنين أقلّ الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة، أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه، ويجوز أن يكون المراد: هما مع بني إسرائيل، و{معكم}، و{مستمعون} خبران لأنّ، أو الخبر {مستمعون}، و{معكم} متعلق به، ولا يخفى ما في المعية من المجاز، لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد: معية النصرة والمعونة {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ووحد الرسول هنا، ولم يثنه كما في قوله: {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} [طه: 47]؛ لأنه مصدر بمعنى: رسالة، والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل، فإنه يثنى مع المثنى، ويجمع مع الجمع، قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا: إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا *** فإني عن فتاحتكم غنى
أي: رسالة.
وقال العباس بن مرداس:
ألا من مبلغ عني خفافا *** رسولا بيت أهلك منتهاها
أي: رسالة. قال أبو عبيدة أيضاً، ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان: رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] وقيل معناه: إن كل واحد منا رسول رب العالمين، وقيل: إنهما لما كانا متعاضدين متساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد، و{أن} في قوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل} مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول، معنى القول: {قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً} أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه، وقالا له ما أمرهما الله به، ومعنى {فينا}: أي في حجرنا ومنازلنا، أراد بذلك المنّ عليه، والاحتقار له أي ربيناك لدينا صغيراً، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فمتى كان هذا الذي تدّعيه؟ قيل: لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة. وقيل: أربعين سنة. ثم قرّرت بقتل القبطي، فقال: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} الفعلة بفتح الفاء: المرّة من الفعل، وقرأ الشعبي: {فعلتك} بكسر الفاء، والفتح أولى؛ لأنها للمرّة الواحدة لا للنوع، والمعنى: أنه لما عدّد عليه النعم ذكر له ذنوبه، وأراد بالفعل قتل القبطي، ثم قال: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي، وقيل: المعنى: من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل: من الكافرين بالله في زعمه؛ لأنه كان معهم على دينهم، والجملة في محل نصب على الحال.
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي قال موسى مجيباً لفرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت، وهي قتل القبطي، وأنا إذ ذاك من الضالين أي: الجاهلين. فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله، وقيل: المعنى: من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل، وقال أبو عبيدة: من الناسين {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي: خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص {فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً} أي نبوّة أو علماً وفهماً.
وقال الزّجاج: المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل} قيل: هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه قال: نعم تلك التربية نعمة تمنّ بها عليّ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا قال الفراء وابن جرير. وقيل: هو من موسى على جهة الإنكار: أي: أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليداً، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي؟ قال الزجاج: المفسّرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار: بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليمّ، فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سبباً له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه، وقال المبرد: يقول التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك، والقهر لقومي، وقيل: إن في الكلام تقدير الاستفهام أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش، وأنكره النحاس. قال الفراء: ومن قال: إن الكلام إنكار قال معناه: أو تلك نعمة؟ ومعنى {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل}: أن اتخذتهم عبيداً، يقال: عبدته وأعبدته بمعنى، كذا قال الفراء، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} قال: ذليلين.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: {وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} قال: قتل النفس.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين} قال: للنعمة، وإن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر؟ وفي قوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} قال: من الجاهلين.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل} قال: قهرتهم واستعملتهم.


لما سمع فرعون قول موسى وهارون: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} قال مستفسراً لهما عن ذلك عازماً على الاعتراض لما قالاه فقال: {وَمَا رَبُّ العالمين} أيّ شيء هو؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول، ويطلب بها تعيين الجنس، فلما قال فرعون ذلك قَالَ موسى {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}، فعين له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون؛ لأنه سأله عن جنس ربّ العالمين، ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدلّ على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ، ولا ربّ غيره {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء، فهذا أولى بالإيقان. {قَالَ} فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} أي لمن حوله من الأشراف ألا تستمعون ما قاله؟ يعني: موسى معجباً لهم من ضعف المقالة كأنه قال: أتسمعون وتعجبون؟ وهذا من اللعين مغالطة، لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى.
فلما سمع موسى ما قال فرعون، أورد عليه حجة أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له ففال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين}، فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا ربّ كما يدّعيه، والمعنى: أن هذا الربّ الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأوّلين، وخلقكم، فكيف تعبدون من هو واحد منكم مخلوق كخلقكم، وله آباء قد فنوا كآبائكم؟ فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به، بل جاء بما يشكك قومه، ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء، فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} قاصداً بذلك المغالطة، وإيقاعهم في الحيرة، مظهراً أنه مستخفّ بما قاله موسى مستهزئ به، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأوّل، فقال: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب وما بينهما، وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسماوات والأرض وما بينهما، لكن فيه تصريح بإسناد حركات السماوات وما فيها، وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه، وتثنية الضمير في: {وَمَا بَيْنَهُمَا} الأوّل لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر:
تنقلت في أشرف التنقل *** بين رماحي مالك ونهشل
{إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي شيئاً من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقل أي إن كنت يا فرعون، ومن معك من العقلاء عرفت، وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلاّ ما ذكرت لك. ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب، فقال: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} أي لأجعلنك من أهل السجن، وكان سجن فرعون أشدّ من القتل؛ لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوّة، وهي إظهار المعجزة، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة فقال: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيء مُّبِينٍ} أي أتجعلني من المسجونين، ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي؟ والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدّر كما مرّ مراراً، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى فقال: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواك، وهذا الشرط جوابه محذوف، لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه، فعند ذلك أبرز موسى المعجزة.
{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} وقد تقدّم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض، فانثعب أي: فجرته، فانفجر، وقد عبّر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 21]، وفي موضع بالجانّ، فقال: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10]، والجانّ هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير، ومعنى {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: ما رأيكم فيه، وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفاً لهم، واستجلاباً لمودّتهم، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرّر به عليهم الاضمحلال، وإلاّ، فهو أكبر تيها، وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدّعي أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدّقونه في دعواه، ومعنى {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}: أخر أمرهما، من أرجأته إذا أخرته، وقيل: المعنى: احبسهما {وابعث فِي المدائن حاشرين}، وهم الشرط الذين يحشرون الناس أي يجمعونهم {يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} هذا ما أشاروا به عليه، والمراد بالسحار العليم: الفائق في معرفة السحر وصنعته.
{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو يوم الزينة كما في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59] {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} حثاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة، ولمن تكون الغلبة، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين، ومعنى {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة}: نتبعهم في دينهم {إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين}، والمراد باتباع السحرة في دينهم هو: البقاء على ما كانوا عليه؛ لأنه دين السحرة إذ ذاك، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى، فعند ذلك طلب السحرة من فرعون الجزاء على ما سيفعلونه فقالوا لفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا} أي لجزاء تجزينا به من مال أو جاه، وقيل: أرادوا إن لنا ثواباً عظيماً، ثم قيّدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى، فقالوا: {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين}، فوافقهم فرعون على ذلك، {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين} أي نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه، وهي كونكم من المقرّبين لديّ.
{قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ}، وفي آية أخرى: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115]، فيحمل ما هنا على أنه قال لهم: ألقوا بعد أن قالوا هذا القول، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمراً لهم بفعل السحر، بل أراد أن يقهرهم بالحجة، ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به {فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} عند الإلقاء {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} يحتمل قولهم: {بعزّة فرعون} وجهين: الأوّل: أنه قسم، وجوابه إنا لنحن الغالبون، والثاني: متعلق بمحذوف، والباء للسببية أي: نغلب بسبب عزّته، والمراد بالعزّة: العظمة {فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} قد تقدّم تفسير هذا مستوفًى. والمعنى: أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية {فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} أي لما شاهدوا ذلك، وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر، ولا من تمويه السحرة، آمنوا بالله، وسجدوا له، وأجابوا دعوة موسى، وقبلوا نبوّته، وقد تقدّم بيان معنى {ألقى}، ومن فاعله لوقوع التصريح به، وعند سجودهم {قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبّ العالمين * رَبّ موسى وهارون} ربّ موسى عطف بيان لربّ العالمين، وأضافوه سبحانه إليهما؛ لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال. وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس بربّ، وأن الربّ في الحقيقة هو هذا.
فلما سمع فرعون ذلك منهم، ورأى سجودهم لله قال: {ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} أي: بغير إذن مني، ثم قال مغالطاً للسحرة الذين آمنوا، وموهماً للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} وإنما اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحبّ الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى؛ لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة، فهو فعل كبيرهم، ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الربّ الذي يدعو إليه موسى.
ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله، فقال: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أجمل التهديد أوّلاً للتهويل، ثم فصله، فقال: {لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، فلما سمعوا ذلك من قوله قالوا: {لاَ ضَيْرَ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا؛ فإن ذلك يزول وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحدّ ولا يوصف. قال الهروي: لا ضير، ولا ضرر، ولا ضرّ بمعنى واحد، وأنشد أبو عبيدة:
فإنك لا يضرك بعد حول *** أظبي كان أمك أم حمار
قال الجوهري: ضاره يضوره، ويضيره ضيراً، وضوراً أي ضرّه. قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا}، ثم عللوا هذا بقولهم: {أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين} بنصب أن أي لأن كنا أوّل المؤمنين. وأجاز الفراء، والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة، ومعنى {أَوَّلُ المؤمنين}: أنهم أوّل من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية.
وقال الفراء: أول مؤمني زمانهم، وأنكره الزجاج، وقال: قد روي أنه آمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً، وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} يقول: مبين: له خلق حية {وَنَزَعَ يَدَهُ} يقول، وأخرج موسى يده من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء} تلمع {للناظرين}: لمن ينظر إليها ويراها.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} قال: كانوا بالإسكندرية. قال: ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذٍ. قال: وهربوا، وأسلموا فرعون، وهمت به فقال: خذها يا موسى، وكان مما بلى الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئاً أي يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذٍ تحته.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {لاَ ضَيْرَ} قال: يقولون: لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} يقولون: إنا إلى ربنا راجعون، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من الكفر وفي قوله: {أَن كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين} قالوا: كانوا كذلك يومئذٍ أوّل من آمن بآياته حين رأوها.


قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف، وجملة {إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} تعليل للأمر المتقدّم أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردّوكم، و{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدائن حاشرين}، وذلك حين بلغه مسيرهم، والمراد بالحاشرين: الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} يريد: بني إسرائيل. والشرذمة الجمع الحقير القليل، والجمع شراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم أي قطع، ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** شراذم يضحك منها الخلاق
قال الفراء: يقال: عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون. قال المبرّد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم، قال الواحدي: قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ: الغضب، ومنه التغيظ، والاغتياظ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} قرئ: {حذرون}، و{حاذرون} و{حذرون} بضم الذال، حكى ذلك الأخفش. قال الفراء: الحاذر: الذي يحذرك الآن، والحذر: المخلوق كذلك لا تلقاه إلاّ حذراً.
وقال الزجاج: الحاذر: المستعد، والحذر: المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد، قال النحاس: {حذرون} قراءة المدنيين، وأبي عمرو، و{حاذرون} قراءة أهل الكوفة. قال: وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون، وحاذرون واحد، وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه:
حذر أموراً لا تضير وحاذر *** ما ليس ينجيه من الأقدار
{فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} يعني: فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز وهي جمع جنة وعين، وكنز، والمراد بالكنوز: الخزائن. وقيل: الدفائن، وقيل: الأنهار، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين: عيون الماء، فيدخل تحتها الأنهار. واختلف في المقام الكريم؛ فقيل: المنازل الحسان. وقيل: المنابر، وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء. وقيل: مرابط الخيل. والأوّل أظهر، ومن ذلك قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها *** وأندية ينتابها القول والفعل
{كَذَلِكَ وأورثناها بَنِي إسراءيل} يحتمل أن يكون {كذلك} في محل نصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، ويحتمل أن يكون في محل جرّ على الوصفية أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك. ومعنى {وأورثناها بَنِي إسراءيل}: جعلناها ملكاً لهم، وهو معطوف على {فأخرجناهم} {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} قراءة الجمهور بقطع الهمزة، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها، وتشديد التاء، أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين أي داخلين في وقت الشروق، يقال: شرقت الشمس شروقاً إذا طلعت كأصبح وأمسى أي دخل في هذين الوقتين.
وقيل: داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم. وقيل: معنى {مُشْرِقِينَ}: مضيئين. قال الزجاج: يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
{فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان} قرأ الجمهور: {تراءى} بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز، والمعنى: تقابلا بحيث يرى كلّ فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية، وقرئ: {تراءت الفئتان} {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم. قرأ الجمهور: {إنا لمدركون} اسم مفعول من أدرك، ومنه {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90]. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشدّدة وكسر الراء. قال الفراء: هما بمعنى واحد. قال النحاس: ليس كذلك يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون: مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم. قال: وهذا معنى قول سيبويه.
وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد.
{قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} قال موسى هذه المقالة زجراً لهم وردعاً، والمعنى: أنهم لا يدركونكم، وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر، والمعنى: إن معي ربي بالنصر والهداية، سيهدين أي: يدلني على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك قوله: {فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر} لما قال موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} بيّن الله سبحانه له طريق الهداية، فأمره بضرب البحر، وبه نجا بنو إسرائيل، وهلك عدوّهم، والفاء في {فانفلق} فصيحة: أي فضرب فانفلق فصار اثني عشر فلقاً بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو معنى قوله: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم}، والفرق: القطعة من البحر، وقرئ: {فلق} بلام بدل الراء، والطود: الجبل قال امرؤ القيس:
فبينا المرء في الأحياء طود *** رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل عليهم *** ماء الفرات يجيء من أطواد
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} أي قرّبناهم إلى البحر يعني: فرعون وقومه. قال الشاعر:
وكلّ يوم مضى أو ليلة سلفت *** فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
قال أبو عبيدة: {أزلفنا}: جمعنا، ومنه قيل لليلة المزدلفة: ليلة جمع، و{ثم} ظرف مكان للبعيد. وقيل: إن المعنى: {وأزلفنا} قربنا من النجاة، والمراد بالآخرين: موسى وأصحابه، والأوّل أولى، وقرأ الحسن وأبو حيوة: {وزلفنا} ثلاثياً، وقرأ أبيّ، وابن عباس وعبد الله بن الحارث: {وأزلقنا} بالقاف أي أزللنا وأهلكنا من قولهم: أزلقت الفرس: إذا ألقت ولدها.
{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقاً يمشون فيها {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} يعني: فرعون وقومه أغرقهم الله باطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً} إلى ما تقدّم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية، ففي ذلك آية عظيمة وقدرة باهرة من أدلّ العلامات على قدرة الله سبحانه، وعظيم سلطانه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلاّ القليل كحزقيل وابنته، وآسية امرأة فرعون، والعجوز التي دلت على قبر يوسف، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى، فإنهم هلكوا في البحر جميعاً بل المراد: من كان معه من الأصل، ومن كان متابعاً له ومنتسباً إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال، وقال سيبويه وغيره: إنَّ {كان} زائدة، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}، أي: المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} قال: ستمائة ألف وسبعون ألفاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا ستمائة ألف.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطاً، فكان في كلّ طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب».
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بسندٍ. قال السيوطي: واه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فرعون عدوّ الله حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائداً مع كل قائد سبعون ألفاً، وكان موسى مع سبعين ألفاً حيث عبروا البحر».
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلاّ على بهيم. وأقول: هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف، ولا يصحّ منها شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال: المنابر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {كالطود} قال: كالجبل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود مثله، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {وَأَزْلَفْنَا} قال: قربنا.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا: ما يعلم أحد مكان قبره إلاّ عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف؟ فقالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: انضبوا عنها الماء، ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا، فاستخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار».

1 | 2 | 3